تحدثنا مسبقا عن المعرفة البشرية وكيف تتم وإلى أين ستصل وتحدثنا عن الدور الأساسي للحواس ومايقوم به العقل في تلك المعرفة ، ولخصنا الموضوع في أن كل مهمة يفهمها العقل يمكن أن يصنع لها بديلا لتوفير طاقته في فهم شئ اخر. لكن ماذا عن الأشياء التي لا يستطيع العقل فهمها ولا استيعابها؟ مثلا لماذا لا نستطيع أن نتخيل البعد الرابع؟ وهل البعد الرابع موجود بالفعل أم لا؟
لنفترض أن هناك شخصان يلعبان الشطرنج أمامهما لوح واحد عليه بعض القطع، هذه القطع كما هو معلوم تتحرك في اتجاهين فقط، ولو أن الملك في تلك اللعبة سأل وزيره أين أنت سيجيب أنه في الرقعة رقم كذا، حينها لو نظر الملك إلى تلك الرقعة لوجده على الفور (إلا لو كان الوزير كاذبا).
الآن هذان الشخصان أرادا أن يلعبا على لوحي شطرنج في آن واحد، كل لوح له قطعه الخاصة به، هذان اللوحان فوق بعضهما تماما وبينهما مسافة، واتفقا على أنه إذا خسر أحدهما قطعة من الشطرنج في أحد اللوحين يمكن تعويضها بنفس القطعة من اللوح الأخر بشرط وضعها في نفس المكان الذي كانت فيه. الآن يسأل الملك وزيره مرة أخرى أين أنت فيجيبه أنه في الرقعة رقم كذا وحين ينظر الملك إلى تلك الرقعة لا يجد وزيره وأيقن حينها بأنه كاذب، ولم يكن الوزير كاذبا في تلك اللحظة؛ لأنه كان في لعبة مختلفة عن لعبة الملك.
مالذي حدث؟ في المرة الأولى وفي أي لعبة شطرنج عادية هناك قيود على حركة القطع بحيث تتحرك في اتجاهين فقط، وقطع الشطرنج تعلم ذلك جيدا ولا علم لديها بسوى هذين الاتجاهين، بينما في المرة الثانية تم رفع هذا القيد عن القطع وأصبحت تتحرك في اتجاه ثالث مختلف تماما عن الاتجاهين السابقين ومتعامد عليهما معا في وقت واحد. هذا الاتجاه وضعها في لعبة أخرى بها قطع مشابهة ومواضع مختلفة لتلك القطع.
نحن أيضا مثل قطع الشطرنج ولكننا نتحرك في ثلاث اتجاهات بدلا من اثنين، كما أن علينا قيود في الاتجاهات مابعد البعد الثالث لسبب ما، تعودنا على ذلك ولا علم لنا سوى بهذه الاتجاهات الثلاثة. ولكن ماذا لو تم رفع هذا القيد وقمنا بتحرك في بعد رابع مختلف عن الابعاد الثلاثة التي نعرفها؟ نعم سنكون في عالم جديد تماما مثل لوح الشطرنج الإضافي الذي يلعب به ذلك الشخصان، وإذا سألنا أحدهم عن مكاننا وقمنا بإعطاءه إحداثياتنا الثلاثية فلن يجدنا هناك، تماما مثل الوزير.
هنا السؤال الذي يظهر على السطح ... هل نحن بذلك أجسام ثلاثية البعد أم متعددة الأبعاد؟
لو نظرت إلى قطع الشطرنج من المنظور العقلي فهي بالتأكيد أجسام ثلاثية البعد، لكن ماذا لو تم استبدال تلك القطع الخشبية بقطع ورقية مربعة سمكها أقل من نصف ملليمتر مكتوب عليها اسم القطعة .. هل ستظل أجسام ثلاثية البعد؟ نعم بالتأكيد.
في الحقيقة لكي يصبح الشئ موجود -عقليا- لابد أن يكون له أبعاد ثلاثة، حتى ولو كان أحد هذه الأبعاد أو كلها صغير جدا، فإذا أخرجت قلمك الرصاص وقمت برسم خط على الحائط فإن هذا الخط الذي رسمته والذي يبدو أحادي البعد هو في الواقع ثلاثي الأبعاد: طول الخط أولها وعرضه الضئيل ثانيها و سمك هذا الخط (الناتج عن قسمة كمية الرصاص في هذا الخط على (طول الخط * عرضه))هو ثالثها. فإذا كان طول الخط 10 سنتيمتر وعرضه نصف ملليمتر مثلا فإن سمكه سيكون ضئيل جدا (ربما جزء من ألف جزء من الملليمتر). هذه الأبعاد على ضئالتها إلا أن أنها ضرورية لوجود الخط، فلن يوجد ذلك الخط أبدا إذا كان أحدها يساوي صفر.
وإذا نظرنا بنفس ذلك المنظور إلى عالمنا فإن الأشياء التي تبدو لعقولنا ثلاثية البعد قد يكون لها بعد ضئيل جدا في اتجاه رابع وآخر ضئيل في اتجاه خامس وهكذا ... فهذه الأبعاد على ضئالتها موجودة ولا يمكن اعتبارها صفرا لأن الشئ عندها لن يكون موجودا.
وإذا كانت قطع الشطرنج عليها قيود بحيث تتحرك في اتجاهين فقط فنحن أيضا علينا قيود ونتحرك في ثلاثة اتجاهات فقط وإذا كان هناك شئ يجدر به الإشارة هنا عن سبب تلك القيود في عالمنا فلن أجد سببا أفضل من الجاذبية.
الجاذبية هو شئ مثير للدهشة حقا، تزداد كتلة الجسم فتزداد قدرته على جذب الأشياء نحوه، وكلما زادت الجاذبية كلما أصبحت حركتنا أكثر ثقلا، فحركتنا نحن البشر على كوكب ذو كتلة أكبر من الأرض مثل كوكب المشترى ستكون أكثر صعوبة، بينما لو ذهبنا إلى القمر ذو الكتلة الأقل من الأرض ستكون حركتنا ذات حرية أكثر؛ فبقفزة عادية منك على سطح القمر ستتجاوز الرقم القياسي المسجل على كوكب الأرض لأعلى قفزة.
فماذا لو زادت جاذبية الأرض إلى رقم كبير للغاية؟ ربما لن نرى أي شكل من أشكال الحياة وربما تحولنا نحن البشر إلى كومة من العظام أو ربما رماد بدون أي حركة؛ حيث ستمزق قوة الجذب الهائلة أي روابط في جسم الإنسان سواء بين العظام وبعضها أو حتى بين الذرات وبعضها حيث ستزيد وزن الذرات كثيرا (تخيل ذرة تزن أطنان) بحيث تنكسر الرابطة بين الذرة والذرة المجاورة لنصبح حينها مجرد هباءا ساكنا. فلنفترض وجود عقل بشري على تلك الأرض ذات الجاذبية الهائلة: هل كان سيدرك الأبعاد الثلاثة التي في عالمنا؟ أشك في ذلك فضلا عن عدم وجود وعاء يحوى ذلك العقل ولكن لنفترض أن إحدى تلك الذرات تستطيع أن تحوي ذلك العقل فلن يدرك أيضا أي بعد من الأبعاد الثلاثة؛ لعجزه عن القيام بحركة في أي بعد منهم وكذلك أيضا الذرات المحيطة به.
فإذا كانت تلك الجاذبية الهائلة قد قيدت كل الأبعاد بحيث أصبح للذرة بعدا ضئيلا جدا في كل الأبعاد (تذكر الخط المستقيم الذي رسمته على الحائط) فإن جاذبية الأرض قد قيدت كل الأبعاد ماعدا تلك الأبعاد الثلاثة التي نعرفها، فأعطت مجالا لتشكل روابط بين الذرات وبعضها من خلال تلك الأبعاد الثلاثة ليظهر الإنسان بصورته وتظهر الأشياء من حولنا. وإذا كانت الجاذبية الهائلة قد قيدت كل الأبعاد فإن عدم وجود جاذبية سيعني أن كل الأبعاد متاحة ويمكن الحركة فيها، وسيكون المجال أكبر لتشكل روابط بين الذرات في كل هذه الأبعاد وتظهر أجسام رباعية وخماسية وهكذا..
ويمكن تلخيص القول أنه مابين تلك الحالة التي تبلغ فيها الجاذبية ذروتها والحالة التي تكون فيها الجاذبية منعدمة (أي عدم وجود أي كتلة) هناك حالات عدة مختلفة الجاذبية ومختلفة القيود منها كوكب الأرض والذي قامت جاذبيته باختزال الأبعاد في ثلاثة أبعاد أساسية يمكن التحرك فيها وباقي الأبعاد ذات أجزاء ضئيلة يمكن تجاهلها ولا يمكن اعتبارها صفرا.
وبالإجابة عن الأشياء التي لا نستطيع فهمها ولا استيعابها فكل شيء له سبب، فإذا غاب السبب عن عالمنا الثلاثي ربما يكون له سبب في عالم ذو بعد إضافي، ولإدراك هذا العالم ذو البعد الإضافي نحتاج إلى تجريد العقل من تأثير الجاذبية. أريد الإشارة أيضا عن كم المعلومات الهائل الذي ستدركه البشرية بإدراك ذلك البعد الإضافي، فإذا كان العالم ثنائي البعد هو تكرار لخط غير متناهي في اتجاه عمودي عليه، والعالم ثلاثي الأبعاد هو تكرار لسطح غير متناهي في اتجاه عمودي عليه، فإن العالم الرباعي هو تكرار لحجم غير متناهي في اتجاه عمودي عليه. وجب أيضا الإشارة عن اختلاف العلماء عن عدد الأبعاد في الكون حيث هناك نظريات تقول أن للكون حتى 26 بعد.
في النهاية أحب الإشارة إلى ثلاثة إشارات في القرآن الكريم والسنة النبوية ربما يكون لها علاقة بتلك الأبعاد فوق الثلاثة أبعاد لنتوقف عندها ونتفكر. أولها: السماوات والأراضين السبع(الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن)، وثانيها: الإتيان بقصر بلقيس من اليمن إلى فلسطين في لمح البصر في قصة سليمان عليه السلام (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا أتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك)، وثالثها: قصة حبس الشمس ليوشع بن نون.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) رواه البخاري.
Comments
Post a Comment