هل سيتواجد الكون إذا لم يكن هناك شئ يرصده؟ - الجزء الأول: المعرفة البشرية

 في الواقع هذا سؤال صعب ومحير وتختلف الإجابة عليه باختلاف الثقافات ومدى فهم الانسان لما يدور حوله.



قد تكون إجابة البعض أن الكون متواجد سواء بوجود "رواصد" أو لا وهذا منطقي للغاية حيث أن الكون -كما نعتقد- متواجد قبل وجود مخلوقات وقبل وجود الحياة، كما أن هناك فضاء شاسع من الكون والمجرات والأفلاك لا نرصده ولا نعلم عنه شيئا ولكنه موجود سواء بوجود رواصد أو لا، نحن فقط نكتشف وجوده.
وقد تكون إجابة البعض بأن الكون موجود لإن الإنسان "الراصد" موجود، فهو يستخدم حواسه ليكتشف وجود الكون، وبغياب هذا الراصد يصبح الكون بلا فائدة فلا داعي لوجوده وهذا منطقي أيضا.
كل هذا جميل ورائع باعتبار أن الراصد هو الإنسان الذي يستخدم "حواسه" في عملية الرصد وأن الأشياء "إما موجودة وإما غير موجودة".
دعوني أعقد الموضوع بعض الشئ بالحديث عن حواس الإنسان .. هل حواس الإنسان قادرة على اكتشاف كل شئ في هذا الكون؟ ربما سؤال أكثر صعوبة من سابقه. لنغوص في الأعماق أكثر ربما نصل لجواب .
ماهي الحواس؟ الحواس في أبسط تعريف لها هي عبارة عن مستشعرات تقوم بالتقاط معلومات (التقاط فقط لا غير)، هذه المعلومات تتم معالجتها عن طريق العقل لتكوين معرفة عن الأشياء المحيطة بنا، وبالحديث عن الاشياء المحيطة فإننا نتدرج في المعرفة على نحو معد مسبقا بحيث يمر معظم الناس بنفس المراحل تقريبا (مرحلة الرضاعة ثم الطفولة ثم المراهقة ثم الانطلاق).
هذه المعلومات تختلف من حاسة لأخرى وكل حاسة تعطي بعدا مختلفا يضيف للمعرفة شيئا جديدا فمعلومات حاسة السمع غير حاسة البصر غير الشم وغير اللمس .. سؤال ثالث، هل هذه المعلومات سببها الحواس أم أن الاشياء المحيطة هي من تنتج هذه المعلومات؟
يحضرني الآن فيلم لوسي الذي تدور قصته عن فتاة استُخدمت من قبل العصابات لتهريب مخدر من نوع جديد ينشط العقل، حيث تم زرع كمية كبيرة منه داخل أحشاءها، ولكن لسوء الحظ -أو لحسن الحظ- يتفاعل المخدر مع جسم الفتاة وتصبح الفتاة بقوة عقلية رهيبة بحيث لا توجد معلومة صغيرة ولا كبيرة تخفى عن الفتاة، وتستطيع أن تاخذ القرار المناسب في أسرع وقت بناء على كم المعلومات الجبار الذي يستطيع عقلها معالجته.
لماذا أذكر تلك القصة؟ استطاعت الفتاة ذات الحواس العادية باستخدام كافة المعلومات وأدق أدق المعلومات التي تنقل إليها من هذه الحواس وباستخدام عقلها الجبار الذي يستطيع تذكر كل ما مرت به طوال حياتها، حتى عندما كانت جنينا في بطن أمها، وبتحليل كل هذه المعلومات القديمة وتجاربها السابقة يستطيع عقلها ربط كل المعلومات الجديدة من كل هذه الحواس للوصول إلى معرفة أشبه بالمعرفة الكلية عن الأشياء المحيطة.
في الواقع نحن محاطون بكم ضخم من المعلومات، بعض هذه المعلومات تستطيع الحواس أن تنقلها مثل الأشكال والألوان والروائح والأصوات، وماتنقله إلينا حواسنا هو جزء صغير من هذه المعلومات؛ لمحدودية مدى هذه الحواس، ثم تتباين عقولنا في معالجة هذه البيانات بناء على مامررنا به من تجارب ومعرفة سابقا لتفسير مايحدث حولنا.
الشئ الآخر الذي هو أن قد يكون هناك جزء كبير جدا من المعلومات لا تستطيع الحواس أن تنقلها إلينا، فالعين مثلا لا تستطيع أن ترى كل الأطوال الموجية للضوء سوى الطول الموجي المرئي فقط، كذلك حاسة السمع لاتستطيع سماع كل الأصوات؛ فهل تستطيع مثلا سماع محادثة بين نملتين 😀
قد يقول البعض أننا أصبحنا قادرين على رصد الأشعة الغير مرئية باستخدام التكنولوجيات الحديثة، كذلك قد نكون قادرين على سماع تلك المحادثة بين النملتين (لست متأكد من الأمر صراحة) ولكن مالسبب؟
إنه العقل. العقل الذي استخدم كافة المعلومات السابقة من حواسه وربطها ببعضها البعض من خلال عمليات تحليل وتبديل وتجريب إلى أن يصل إلى حقائق لا تستطيع حواسه إثباتها لوحدها.
في الواقع عقولنا مصممة لتعمل بشكل رائع في عمليات السبب والنتيجة ، فمثلا عندما شاهد الإنسان شروق الشمس وغروبها كل يوم (نتيجة) بدأ في البحث عن السبب إلى أن وجد أن الأرض عبارة عن كرة وأنها تدور حول الشمس (سبب) ولا عزاء هنا لأصحاب نظرية استواء الأرض.
لكن العقل لا يعمل جيدا في عملية التذكر أو العمليات التي تعتمد على التذكر، لذلك اتجه الانسان إلى الكتابة وتدوين المعلومات حتى لاينساها، كما أن الإنسان قد وجد نفسه يقوم بعمليات عد وحساب تحتاج إلى جهد في عملية التذكر فاتجه إلى استحداث أدوات لتقوم عنه بهذه العمليات بداية من العداد البسيط إلى أن وصلنا الى ما يسمى بالحاسب الآلي أو الكمبيوتر.
بعد ذلك توطدت العلاقة مابين عقل الإنسان والكمبيوتر، فكل عملية حسابية تحتاج جهدا ووقتا من الانسان (مثل تحليل المنشآت كمجال دراستي) أصبح الانسان يكتب مجموعة من الاوامر بلغة يفهمها الحاسب لانجاز تلك المهمة ويقوم الكمبيوتر بهذه المهمة بدون كلل او ملل ليس كما يفعل الانسان .. فالعمليات المحاسبية التى كانت تاخذ اياما اصبحت لاتأخذ مجرد ثواني معدودة على شيت اكسل.
وبتعدد المهام التي يقوم بها الانسان وتنوعها بالاضافة إلى تعقد بعضها بحيث يصعب الوصول إلى كود برمجي للحصول على نتيجة (مثل كتابة اوامر لمعرفة ماذا يوجد في الصور)؛ اتجه الانسان لأن يجعل الحاسب الالي يكتب الكود البرمجي بدلا عنه، أي بدلا من أن يضع الانسان القواعد التي سيطبقها الكمبيوتر أصبح الكمبيوتر هو من يتعلم هذه القواعد من خلال التعرض لبيانات كثيرة معلومة النتائج، ومن خلال تحليل وهضم هذه البيانات يستطيع الحاسب توقع النتيجة بدقة كبيرة تقترب من دقة البشر مع فارق الإنتاجية الرهيب لصالح الحاسب الآلي.

ماذا بعد تعلم الالة؟
وجدنا أن الإنسان كلما زادت المهام عليه اتجه الى رفع ثقل هذه المهام عنه بداية من الكتابة والتدوين إلى الذكاء الاصطناعي. مسيرة طويلة للبشرية تُسَّلم بعضها البعض ويبني بعضها على نتائج بعض، فلن يكون هناك ذكاء اصطناعي بدون كمبيوتر الذي أيضا لن يوجد بدون كهرباء.
كل اختراع من هذه الاختراعات احتاج عقولا وجهودا وأزمنة لكي يصل للوجود.
الأمر أشبه بكتابة دالة تعتمد على سلسلة من الدوال في البرمجة كل دالة تحتاج إلى جهد كبير لكتابتها، وإذا كانت الدالة التي نكتبها جيدة بالشكل الكافي سيعتمد عليها مبرمجون من بعدنا.
ولكن إلى اين؟ إلى أي حد ستصل معرفة الإنسان؟ وجدنا أن كل عملية تحتاج من الإنسان جهدا اتجه إلى صناعة بديل له لأداء هذه المهمة عنه، ولكن لضمان نجاح البديل لابد أولا للعقل أن يفهم المهمة فهما جيدا ثم يفكر العقل في كيفية صناعة هذا البديل. لذلك كل مهمة يستطيع العقل فهمها فإن بإمكانه أن يصنع بديلا له لأدائها.
فالان توجد انظمة التعرف على الوجه وفهم الكلام البشري NLP أو Natural Language Processing وغيرها من الأنظمة الذكية. حتى الفنون والعمارة المبنية أساسا على الإبداع والإبتكار لن تسلم من تبعات الذكاء الاصطناعي؛ ذلك لأن هذه الفنون مبنية على عمليات التجريد والتركيب التي يستطيع العقل فهمها، وسنصل قريبا الى تصميمات معمارية لن يتدخل فيها الإنسان أبدا.
الجميل في الموضوع أن كل معرفة تضيف إلى سابقتها للوصول إلى شئ جديد، الأمر أشبه بصعود درج لا نهاية له.
وفي وجهة نظري أنه لا حدود لهذه المعرفة ولن نصل أبدا لحد التشبع وهذا هو الجانب المشرق؛ إذ لو حصل التشبع لانعدمت رغبة الانسان في مواصلة الحياة.


ولكن ماذا عن الأشياء التي لا يستطيع العقل إدراكها ولا فهمها ؟ ولماذا لا نستطيع تخيل البعد الرابع؟
هل هناك خيار ثالث بعد الوجود وعدم الوجود؟
وماذا عن المشاعر البشرية وتعقيدها؟ وهل لها دور في هذه المعرفة؟

Comments